كان في زاوية المهجع، قرب النافذة التي تطل على الممر الفاصل بين عنابر الطابق العلوي من سجن المزة العسكري، وقد ألصق على الحائط الذي وراءه صورتين: واحدة لوردة حمراء تتوسطها صورة فيروز، وأخرى لحافظ الأسد.
عندما دخلت المهجع لأول مرة حرت في أمر سجين يضع صورة سجانه فوق رأسه. حين سألت أحد السجناء إن كان مخبرا ومحبا للأسد، نفى ذلك بصورة قطعية، وقال: إنه كان ضابطا متميزا أبدى قدرا من الشجاعة خلال حرب «تشرين» أهله لنيل أرفع وسام تمنحه الدولة للشجعان من جيشها، وامتدح طيبته وتواضعه. بعد حين، لاحظت أن لون عينيه يكاد يكون أحمر، وأنه يبكي ويئن معظم الليل، بمجرد أن يغطي رأسه بالبطانية ويطفأ الضوء في الحادية عشرة ليلا، بعد مرور مساعد الشرطة العسكرية لإسماع المساجين جملة يكررها كل ليلة: «ناموا يا صراصير ناموا. أكل وأكلتوا وشرب وشربتوا، شو بدكن أحسن من هيك. والله لولا رحمة السيد الرئيس لقتلناكم بالـ(دي تي تي) لأنكم صراصير».
روى أحمد لي قصته فقال: أمرني قائد لوائي بالذهاب من القطيفة، حيث ثكنتنا، إلى لواء مدرع يعسكر في قطنا لإحضار دبابة. وصلت إلى هناك، فأخبرني الضابط المسؤول عن الصيانة أن الدبابة ليست جاهزة بعد، واقترح علي الانتظار في مطعم اللواء، ريثما يحين وقت تسلمها. توجهت إلى المطعم، وجلست وحيدا في ركن بعيد، لأنني لم أكن أعرف أحدا من ضباطه وجنوده، ثم وضعت سماعة الموسيقى التي تلازمني دوما في أذني وأخذت أستمتع بصوت فيروز، معشوقتي التي سميت دبابتي باسمها. كان هناك عدد من الأشخاص في الركن البعيد عني، لكنني لم أهتم بهم أو أسمع ما كانوا يقولونه، فقد كانت أذناي مليئتين بأغاني فيروز. بعد ساعات جاء جندي ليخبرني أن الدبابة صارت جاهزة، فأخذتها على حاملة وذهبت إلى لوائي، على بعد قرابة سبعين كيلومترا من قطنا.