..
هل نملكُ أن ندخلَ داخلَ أرواحِنا ونحاولُ تنظيفها وإعادةَ إعمارها وترميمها مثلما نعمّرُ بيوتنا؟
أحتاجُ الكثيرَ من مواد التنظيفِ وموادِ البناء..أحتاجُ حملات عملٍ شعبي و"لمة" من أصدقاءٍ وأحبةٍ وربما أطباء مختصينَ ومهندسين وبنـّائينَ محترفين للتخلص من ركامِ الماضي والذكريات أولاً..ثم إعادة إعمارِ ما دمّرهُ العمرُ والتجاربُ والحروبُ والغربة.
لماذا نحملُ ذكرياتنا معنا في كل مكان؟..وهل نستطيعُ التخلصَ مما يزعجنا بأن نتخلصَ من الأشياءِ التي تحيلنا لآلامنا؟..هل يتخلصونَ من ملابسِ المتوفي وأدواتهِ الشخصية كي لا يعودوا يتذكرونه؟..وهل من السهلِ أن ننسى عزيزاً حين نبعدُ أشياءهُ عنا؟
يخبرنا العلماء أن الذاكرةَ تنتعشُ بالأشياءِ التي تحيلنا إليها وبالأماكن والروائح والموسيقى والكلمات..ولكن ماذا لو كان للأحبة فينا جذور ضاربة لا يحتاجونَ معها لإنعاش ذاكرة؟..فثمة من يعيش معنا مهما طال زمن رحيله..يقول قيس إبن الملوّح:
نهاري نهارُ الناسِ حتى إذا دجى / بيَ الليلُ هـزّتني إليكِ المضـاجعُ
لقد رسخَتْ في القلبِ منكِ مودّة ٌ / كما رسختْ في الراحتينِ الأصابعُ
أما الوطن فإنه راسخ ٌفينا كأنهُ الروح..بل ويكبرُ ويتفاقمُ وتستفحلُ ذكرياته كلما أطلنا عنه البعاد!..حين كنا صغاراً..كنا نداوي خلافاً مع صديق بأن نشابك إصبعين صغيرين وغالباً دون حتى عتاب..ونقول ما يشبه التعويذة ونحن نهزّ أصابعنا: "جين جين عرقجين..آني وفلان متصاحبين".. وينتهي الأمر على ذلك وننسى كل شيء..ثم نبدأ باللعب معاً من جديد وكأن شيئا لم يكن! وكنا حين نقع على الأرض مثلاً وتدمى ركبتنا فنبكي ألماً..يهرعُ إلينا أهلنا بحنان..يغسلون لنا الجرح ويربـّتون على أكتافنا ويقولون: "غدا ستكبر وتنسى"!
كنا نتعلّقُ بالأماكن..لكنّ الأماكنَ هي الاخرى كانت تستبدلُ نفسها لتزدانَ مرة اخرى بحلةٍ أحلى واصدقاء جدد..نعتادهم ونحبهم ويحبوننا مثلما أحببنا الذين سبقوهم في الصف أو المدرسة أو الجوار..وحين كبرنا قليلاً صرنا نداوي حباً ينتهي..بالتعلّق بحبٍ جديد!..وكانت كلها طرقاً ناجعة ولا بأس بها..فقد كانت أهم دعائم الفرح هي النسيان والتجاوز..كنا نجدُ في حبيبِ اليوم ما يغنينا عن حبيبِ الأمس وما يُنسينا جرحهُ وألمهُ وحتى أيام فرحه!
فلماذا لم نعدْ ننسى؟..هل كبرتْ همومنا معنا فصارتْ عصية ًعلى النسيان؟..لماذا صارت الذاكرة عبئاً ثقيلاً لهذا الحد؟..نحن فعلاً نسينا ألم الركبة ونسينا سبب خصامنا مع أصدقاء طفولتنا..ونسينا تعلقنا بمدرستنا القديمة وبيتنا القديم..لكننا صرنا ننوء بأعباء ذكرياتٍ أعمق وأكبر وأدهى.
ها انني اليومَ أنوءُ بحملِ ذاكرةِ وطنٍ لم يعدْ لي..وبيتٍ لم أعد أسكنه..واشخاصٍ لم يعد يعنيني أمرهم..وأصدقاء وأحبة خذلوني..وسواهم أعشقهم ورحلوا الى عالم بعيد..فكيف لي أن انسى؟..لماذا تعملُ ذاكرتي بهذهِ الكثافةِ والقسوة؟..لماذا توجعني وتقضُّ مضجع استرخائي؟..لماذا لا تكفّ عني؟.. هل الحل هو إجراء عملية تجميلٍ باستئصال الذاكرة؟ وهل سأحيا حياة أفضل إن فعلت؟
ليتني أستطيعُ أن أرفع إصبعي الصغير وأشبكه بإصبع أيامي..وأهزهُ وأنا أتلفظ تعويذة التصالح..وأنسى كل ذكرياتي..لأبدأ اللعب مع أيامي القادمات..وكأن شيئاً لم يكن.
صباحكم ابتسامة نسيان.
ريم قيس كبة